لم يكن المشهد عادياً في احتفال عملاق التكنولوجيا مايكروسوفت بذكراه الخمسين. ففي لحظة فارقة، وبينما كان مصطفى سليمان، الرئيس التنفيذي لقسم الذكاء الاصطناعي، يلقي كلمته، اخترقت شابة صفوف الحضور وتوجهت نحو المنصة بصوت يعلوه الاحتجاج. كانت هذه الشابة هي ابتهال أبو السعد، مهندسة برمجيات مغربية تعمل في قلب الشركة، وقد جاءت تحمل رسالة مدوية تتهم فيها مايكروسوفت بالتواطؤ في “الإبادة الجماعية” بغزة عبر تزويد الجيش الإسرائيلي بتقنيات الذكاء الاصطناعي. هذه اللحظة الجريئة لم تكن مجرد مقاطعة لحدث، بل كانت الشرارة التي أشعلت منصات التواصل الاجتماعي العربية، محولة ابتهال في غضون ساعات إلى أيقونة للرفض والمقاومة. لكن كيف تحققت هذه المكانة الرمزية وبهذه السرعة؟
يكمن السبب الأول والأكثر وضوحاً في رمزية القضية نفسها. فالقضية الفلسطينية ليست مجرد قضية سياسية في العالم العربي، بل هي جزء لا يتجزأ من الهوية والوجدان الجمعي. أي تحرك، مهما كان صغيراً، يُنظر إليه على أنه دفاع عن الحق الفلسطيني أو تحدٍ لمن يُعتبرون مساهمين في معاناة الشعب الفلسطيني، يجد صدى عاطفياً هائلاً. جاءت كلمات ابتهال واتهامها المباشر لشركة عالمية كبرى في سياق حرب مستمرة ومأساة إنسانية تتكشف فصولها يومياً في غزة، لتلامس وتراً حساساً لدى الملايين وتستدعي تعاطفاً وتضامناً فورياً وواسع النطاق.
العامل الثاني هو الشجاعة الفردية في مواجهة القوة الهائلة. إن مشهد مهندسة شابة تتحدى بشكل علني وفي حدث رسمي بارز، أحد أعلى المسؤولين في شركة تكنولوجية عملاقة، يجسد قصة “داود وجالوت” الكلاسيكية. هذا التحدي للسلطة والنفوذ، خاصة من قبل فرد من داخل المنظومة نفسها، يُعتبر عملاً استثنائياً ونادراً يبعث على الإعجاب والتقدير. إن الجرأة على المخاطرة بالمسار المهني من أجل التعبير عن موقف أخلاقي قوي هو ما ميز فعل ابتهال.
ويتصل بذلك العامل الثالث، وهو التضحية بالمصلحة الشخصية من أجل المبدأ. لم تكتفِ ابتهال بالاحتجاج العلني، بل أتبعته بإعلان استقالتها بعبارة قوية: “لا يمكنني أن أكون جزءاً من آلة قتل”. هذه الاستقالة من منصب مرموق في مجال واعد، تمثل تضحية شخصية كبيرة يراها الكثيرون دليلاً على صدق الموقف وعمق القناعة الأخلاقية. في ثقافة تقدر غالباً التمسك بالمبادئ حتى لو كان الثمن باهظاً، لاقت هذه الخطوة احتراماً كبيراً وعززت من مكانتها الرمزية.
رابعاً، ساهمت محاولات الإسكات المتصورة في تضخيم القصة وزيادة التعاطف. التقارير التي تحدثت عن حذف حسابها المهني على “لينكدإن” (المملوك لمايكروسوفت) ومنعها من الوصول لحساباتها الأخرى في الشركة، فُسرت على نطاق واسع بأنها محاولة انتقامية من الشركة لإسكات صوت معارض. هذه الرواية، سواء كانت دقيقة بالكامل أم لا، عززت صورة ابتهال كضحية تسعى قوة كبرى لقمعها، مما زاد من الدعم الشعبي لها.
أخيراً، لا يمكن إغفال عامل الهوية والتمثيل. كون ابتهال شابة عربية مسلمة تعمل في قطاع التكنولوجيا المتقدم، جعل منها نموذجاً للكثيرين في العالم العربي. موقفها لم يكن مجرد احتجاج، بل كان صوتاً من الداخل، يتحدى الصور النمطية ويطرح تساؤلات حول أخلاقيات التكنولوجيا ودور الشركات العالمية في الصراعات الدولية.
لقد اجتمعت كل هذه العوامل – القضية العادلة، الشجاعة الفردية، التضحية الشخصية، رمزية التحدي، ومسألة الهوية – لتخلق لحظة فريدة. لم تكن مقاطعة ابتهال مجرد صرخة في فراغ، بل كانت تعبيراً مكثفاً عن مشاعر وإحباطات وآمال قطاع واسع من الجمهور العربي، مما حولها بسرعة إلى أيقونة تتردد قصتها وتُلهم الكثيرين على منصات التواصل الاجتماعي وخارجها.