معجزة فوق الأنقاض: حكاية الناجي الوحيد من كارثة طيران الهند

في تلك اللحظات الأولى التي تلت مغادرة العجلات لأرض المطار، كان كل شيء يسير وفق ما هو متوقع. سكون رتيب في مقصورة الطائرة، وهمهمات الركاب، وأحلامهم التي تحلق معهم نحو لندن. لكن هذا السكون تمزق فجأة بإحساس غريب وقاهر. شعر فيشواسكوكار راميش، الجالس في مقعده بجوار النافذة، وكأن الطائرة العملاقة قد توقفت في الهواء، عالقة بين السماء والأرض في لحظة تحدّت كل قوانين الفيزياء. لم يكن يعلم أن هذه كانت مقدمة النهاية لرحلة طيران الهند رقم 171.

في ومضة، انفجرت أضواء خضراء وبيضاء في وجهه، فأضاءت المقصورة بشكل سريالي، قبل أن يبتلع الظلام كل شيء. الشيء التالي الذي أدركه راميش هو أنه لم يعد في السماء. كان على الأرض، وسط فوضى لا يمكن تصورها. مقعده، 11A، المحاذي لمخرج الطوارئ على الجانب الأيسر، كان هديته من القدر. شق طريقه بصعوبة إلى الخارج، ليجد نفسه في مشهد من الجحيم.

أمامه، رأى كيف انغرس الجانب الأيمن من الطائرة في أحشاء مبنى سكني، محولاً مخارج الطوارئ في ذلك الاتجاه إلى بوابات مغلقة نحو الموت. وقبل أن يتمكن من استيعاب هول المنظر، انفجرت كرة لهب عظيمة من حطام الطائرة، باعثة بألسنة نار برتقالية ودخان أسود كثيف إلى السماء، كأنها تعلن عن حجم المأساة للعالم.

“لا أعرف كيف نجوت”، قالها بصوت خافت من سريره في المستشفى، والضمادات تغطي جروح وجهه، لكن جسده نجا بأعجوبة من إصابات قاتلة. أصبح هذا المواطن البريطاني، في أواخر الثلاثينيات من عمره، الناجي الوحيد من بين 241 شخصاً كانوا معه على متن الطائرة، وبات يُعرف في جميع أنحاء الهند بلقب “معجزة المقعد 11A”.

لكن قصة النجاة هذه لم تكن سوى وجه واحد من المأساة. فطائرة البوينج 787 لم تسقط في أرض خاوية، بل ارتطمت بسكن طلابي تابع لكلية الطب، لتضيف إلى قائمة ضحاياها 24 شخصاً آخرين على الأرض. وفي قلب هذا المشهد المدمر، أصبحت نجاة راميش، الذي زاره رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، بصيص أمل وحيد في محيط من الرماد.

المستشفى الذي يعالج فيه راميش، بطلائه المتقشر وغياب التكييف، هو جزء من نفس الكلية المنكوبة. كان يعالج حوالي 100 جريح، نصفهم من طلاب السكن الجامعي. وفي مكان قريب، تحول فصل دراسي إلى مركز مؤقت لفحص الحمض النووي. هناك، كانت العائلات المكلومة تقدم عينات الدم والدموع، وتتشبث بصور أحبائها، وتشارك قصصهم الأخيرة مع موظفين يحاولون الحفاظ على رباطة جأشهم خلف أقنعتهم الجراحية.

ومن بين أنقاض المبنى، ظل ذيل الطائرة بارزاً من الطابق الثاني، وإطار طائرة مفلوت يستقر بشكل غريب فوق طبقة مكشوفة من الطوب، في مشهد يختزل الكابوس الذي عاشه من كانوا بالداخل.

أحد هؤلاء كان سانكيت فالييا، طالب الطب البالغ من العمر 19 عاماً. كان يتناول غداءه مع صديقه في الطابق الأول عندما انهار العالم فوق رأسه. استقر عمود خرساني على كتفه الأيمن، مثبتاً إياه على الأرض. سمع بكاء صديقه بجانبه، وظل يصرخ طالباً النجدة لمدة 45 دقيقة طويلة ومرعبة، لكن لم يأتِ أحد. في تلك اللحظة، استسلم. “أغمضت عيني وفكرت: هذه هي النهاية”. تمكن رجال الإنقاذ من إخراجه أخيراً، لكنه أبقى عينيه مغمضتين حتى وصل إلى المستشفى، خوفاً مما قد يراه. نجا بكسور وجروح، لكنه لا يزال لا يعرف ما حل بصديقه.

ولم تكن لاليتا بيهان، وهي طاهية في السكن، أفضل حالاً. كانت في الطابق السفلي عندما سمعت صوت الارتطام. في الطابق العلوي، كانت ابنتها البالغة من العمر عامين وحماتها. ركضت نحوهما، لكنها وجدت نفسها في مواجهة جدار من النار والدخان. قالت بصوت يخنقه البكاء في مركز فحص الحمض النووي: “كان الدخان كثيفاً جداً والنار هائلة”. الآن، هما في عداد المفقودين، لكنها ترفض مواجهة الحقيقة الأبشع. “لا أريد أن أرى جثتيهما. لا أعتقد أنني سأعيش إذا رأيت جثة طفلتي”.

حتى راميش، الناجي بمعجزة، لم يخرج من هذه الكارثة بلا خسارة. فإلى جانبه على متن الطائرة كان شقيقه، أجاي. كلاهما كان من بين 14 شخصاً من جزيرة ديو الهندية على متن تلك الرحلة. كان راميش في طريقه إلى ليستر، حيث استقر مع عائلته وأسس عملاً في صناعة الملابس، ليزور زوجته وأسرته.

في واحدة من أكثر لحظات المأساة سريالية، ومن قلب الحطام والدخان، تمكن راميش من إجراء مكالمة هاتفية. اتصل بوالده. وبحسب ما روى ابن عمه، قال راميش لأبيه بصوت مرتبك: “لا أعرف كيف أخرج من الطائرة”، وأضاف أنه يريد انتظار شقيقه أجاي. لم يكن يعلم حينها أن مقعد شقيقه كان في صف الخروج على الجانب الآخر من الطائرة، الجانب الذي ابتلعه المبنى الناري.

ينضم راميش الآن إلى قائمة قصيرة ومؤلمة تضم حوالي 14 شخصاً فقط عرفوا بأنهم الناجون الوحيدون من حوادث طيران كبرى. إنها تجربة تترك ندوباً أعمق من الجروح الجسدية. فكيف يعيش المرء وهو يعلم أنه الوحيد الذي أُعطي فرصة الحياة؟

جورج لامسون جونيور، الذي نجا من حادث تحطم عام 1985 وهو مراهق، يعرف هذا الشعور جيداً. لقد أمضى سنوات يبحث عن الناجين الوحيدين الآخرين، لأنه أدرك أنهم فقط من يمكنهم فهم عبء “ذنب الناجي” والاكتئاب الذي يلاحقهم. واليوم، يرسل لامسون دعمه من بعيد، كاتباً على فيسبوك: “قلبي مع الناجي في الهند”.

بينما تتعافى جروح راميش الجسدية، تبدأ رحلته الحقيقية. رحلة التعايش مع الذكريات، ومع فقدان شقيقه، ومع ثقل كونه الرجل الذي نجا عندما مات الجميع.

لقد خدع الموت في السماء، لكن عليه الآن أن يتعلم كيف يعيش معه على الأرض.قليل منهم في العناية المركزة.

شارك المقال:

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعونا على وسائل التواصل الاجتماعي

إشهار

هذه المساحة مخصصة للإعلانات. دعمك يساهم في استمرار الموقع وتقديم محتوى إخباري مميز.

انضم إلى العائلة!

اشترك في النشرة الإخبارية.

لقد تم اشتراكك بنجاح! عفواً! حدث خطأ ما، يُرجى المحاولة مرة أخرى.
Edit Template

معلومات عنا

موقع المحيط الإخباري: هنا، الخبر يبدأ بالإنسان وينتهي به. نحن منصة إخبارية شاملة تضع الإنسان في قلب اهتماماتها، مستكشفةً قصصه وتحدياته وآماله. لا نتعجل في نقل الحدث، بل نقدم تفاصيله بعمق، ونطرح الأسئلة التي تقود إلى فهم أوسع. نغطي الأحداث المحلية والإقليمية والدولية بمنظور تحليلي مختلف، مع اهتمام خاص بتقديم المعرفة في مجالات المستقبل التي تشكل عالمنا القادم. كل ذلك في إطار من الدقة والمسؤولية واحترام أخلاقيات العمل الصحفي

  شروط الاستخدام © 2025 Created By M AGENCY