في الوقت الذي تشتعل فيه الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، وتتجه فيه الولايات المتحدة نحو سياسات انكماشية، تقدم الصين على خطوة تبدو للوهلة الأولى سخية، لكنها في عمقها مناورة استراتيجية ذكية لإعادة تشكيل موازين القوى في إفريقيا والعالم. الإعلان الصيني عن نيتها إلغاء الرسوم الجمركية على كافة الدول الإفريقية تقريباً ليس مجرد مبادرة تجارية، بل هو رسالة جيوسياسية واضحة المعالم.
قراءة ما وراء الأرقام: تصحيح الخلل أم تعميق النفوذ؟
ظاهرياً، تهدف بكين من خلال هذه الخطوة إلى دعم المشاريع التنموية في القارة السمراء وفتح سوقها الضخم أمام المنتجات الإفريقية. قد يبدو هذا الإجراء محاولة لتصحيح الخلل الهائل في الميزان التجاري، الذي يميل بشدة لصالح الصين بفائض بلغ 62 مليار دولار العام الماضي. لكن التحليل الأعمق يكشف أن بكين تستخدم قوتها الاقتصادية كأداة قوة ناعمة فائقة الفعالية. فمن خلال إتاحة الوصول إلى سوقها، تضمن الصين ولاءات سياسية واقتصادية طويلة الأمد، وتؤمن تدفق الموارد الأولية التي تحتاجها آلتها الصناعية، وتخلق ارتباطاً عضوياً بين الاقتصادات الإفريقية والاقتصاد الصيني يصعب فكه مستقبلاً.
ملء الفراغ الأمريكي: دبلوماسية الإعفاءات الجمركية
تأتي هذه الخطوة الصينية في توقيت محسوب بدقة. ففيما يرفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الرسوم الجمركية على بعض الدول الإفريقية بنسب تصل إلى 50%، تقدم بكين نفسها كشريك موثوق وبديل جذاب ومنفتح. إنها تستغل الفراغ الاستراتيجي الذي تخلفه السياسة الأمريكية المتقلبة، لترسخ صورتها كبطل للعالم النامي ومدافع عن التجارة الحرة، على الأقل خطابياً.
والدليل الأبرز على أن هذه الخطوة سياسية بامتياز هو استثناء مملكة إسواتيني، الدولة الإفريقية الوحيدة التي لا تزال تعترف بتايوان. هذا الاستثناء ليس عفوياً، بل هو رسالة واضحة مفادها أن الفوائد الاقتصادية التي تقدمها بكين مرتبطة بشكل مباشر بالاعتراف بسيادتها ومصالحها السياسية، وعلى رأسها مبدأ “الصين الواحدة”.
فرصة أم فخ؟ مستقبل القارة بين المطرقة الأمريكية والسندان الصيني
من منظور الدول الإفريقية، تمثل هذه المبادرة فرصة لا يمكن تجاهلها. فإلغاء الرسوم الجمركية أمام اقتصادات كبرى مثل نيجيريا ومصر وجنوب إفريقيا والمغرب يفتح آفاقاً تصديرية هائلة. لكنها في الوقت نفسه سيف ذو حدين. فهل تستطيع الصناعات الإفريقية الناشئة بالفعل منافسة المنتجات الصينية حتى داخل أسواقها المحلية، ناهيك عن السوق الصينية نفسها؟ وهل سيؤدي هذا الانفتاح إلى تعميق الاعتماد على الصين، وتحويل القارة إلى مجرد مورد للمواد الخام ومستهلك للمنتجات الصينية النهائية؟
إن القرار الصيني يضع إفريقيا في قلب الصراع بين القوتين العظميين، ويجبر دولها على اتخاذ خيارات استراتيجية دقيقة. فبينما تبدو واشنطن شريكاً متقلباً يفرض شروطاً قاسية، تظهر بكين كشريك اقتصادي يغدق بالعروض، لكن بأجندة سياسية غير معلنة.
في المحصلة، خطة الإعفاء الجمركي الصينية هي أحدث فصول استراتيجية بكين طويلة الأمد في إفريقيا. إنها خطوة تتجاوز الاقتصاد لترسم ملامح خريطة جديدة للتحالفات العالمية، حيث تستخدم الصين التجارة كسلاح فعال في حربها الباردة مع واشنطن، وتثبّت أقدامها كقوة لا يمكن تجاهلها في مستقبل القارة السمراء.thumb_upthumb_down