ما بدأ كإجراء تقني يهدف إلى حماية أرواح المواطنين على الطرقات، عبر مراقبة سرعة الدراجات النارية تحول في غضون أيام قليلة إلى قضية رأي عام كشفت عن تجاذبات اجتماعية وصراع سياسي خفي داخل الأغلبية الحكومية.
قصة حملة مراقبة سرعة الدراجات النارية هي حكاية قرار واجهته روايتان متضاربتان، وانتهى بتدخل حاسم وضع السياسة في قلب نقاش تقني.
الفصل الأول: صافرة الإنذار وأرقام الموت
في البداية، كانت الأرقام هي التي تتحدث. أعلنت وزارة النقل واللوجيستيك أنها بصدد تفعيل مذكرة موجهة إلى المديرية العامة للأمن الوطني لتشديد الرقابة على الدراجات النارية، وكان من المقرر أن تدخل حيز التنفيذ في 6 غشت 2025. استندت الوزارة في قرارها إلى معطيات وصفتها بالمقلقة؛ حيث كشفت الإحصائيات المسجلة حتى سنة 2024 عن مقتل 1738 شخصا في حوادث مرتبطة بهذه الفئة، وهو ما يمثل أزيد من 43% من المجموع الإجمالي لقتلى حوادث السير. التشخيص كان واضحا: السبب الرئيسي هو السرعة الزائدة الناتجة عن تعديلات غير قانونية يدخلها أصحاب الدراجات على خصائصها التقنية لتتجاوز سعة 50 سنتيمترا مكعبا.
الفصل الثاني: غضب الشارع ومنصات التواصل
بمجرد الإعلان عن الحملة التي ستعتمد على جهاز قياس السرعة القصوى “Speedomètre”، وتداول تفاصيلها، اندلعت عاصفة من الجدل، خاصة على منصات التواصل الاجتماعي. اعتبر قطاع واسع من المواطنين، وتحديدا الفئات التي تعتمد على هذه الدراجات في تنقلاتها اليومية وقوت عيشها، أن الإجراء يستهدفهم بشكل مباشر دون مراعاة لظروفهم الاجتماعية والاقتصادية. تحولت الحملة من إجراء للسلامة الطرقية في نظر السلطات، إلى “تضييق” على شريحة واسعة من المجتمع في نظر المتضررين، مما خلق حالة من الاحتقان الاجتماعي الوشيك.
الفصل الثالث: القرار المفاجئ وروايتان متضاربتان
في ذروة الجدل، وقبل أيام من الموعد المحدد، أعلنت وزارة النقل واللوجيستيك بشكل مفاجئ عن إرجاء العمل بالمذكرة. وهنا، ظهرت للعلن روايتان مختلفتان تماما حول من يقف وراء هذا التراجع.
الرواية الرسمية للوزارة جاءت في شكل بلاغ صحفي يؤكد أن الوزارة، وبعد الأخذ بعين الاعتبار متطلبات السلامة الطرقية والظروف الاجتماعية والاقتصادية، وحرصا على حقوق المالكين، قررت مراجعة مضامين المذكرة. البلاغ أشار بشكل دقيق إلى أن هذا القرار تم “بعد استشارة وتنسيق مع رئيس الحكومة”، مما يصور القرار على أنه نابع من الوزارة نفسها وبشكل تشاوري ومنسجم.
الرواية المسربة للإعلام قدمت قصة مختلفة تماما. نقلت مصادر إعلامية، أن رئيس الحكومة عزيز أخنوش هو من تدخل بشكل مباشر وحاسم.
وحسب هذه الرواية، أجرى أخنوش اتصالا هاتفيا بوزير النقل واللوجيستيك، عبد الصمد قيوح، طالبا منه تعليق الحملة فورا ومنح السائقين مهلة 12 شهرا لتسوية أوضاعهم. هذه الرواية تضع رئيس الحكومة في موقع الفاعل الرئيسي الذي استجاب لنبض الشارع وأمر بوقف القرار.
الفصل الرابع: القراءة السياسية وكشف المستور
هذا التضارب في الروايات فتح الباب واسعا أمام التحليل السياسي. حيث يرى المحلل السياسي سعيد بركنان في حديث مع المحيط، أن ما حدث ليس مجرد تضارب في التواصل، بل هو انعكاس مباشر لخلافات عميقة داخل الأغلبية الحكومية، وتحديدا بين حزبي التجمع الوطني للأحرار (حزب رئيس الحكومة) والاستقلال (حزب وزير النقل).
يعتقد بركنان أن “إيقاف هذه الحملة بناء على مؤشرات احتقان اجتماعي وشيك، انعكس بشكل آخر على سرعة ظهور الخلافات بين مكونات الأغلبية الحكومية”.
ويشير إلى أن هذه ليست المرة الأولى، مذكرا بالخلاف الذي ظهر سابقا حول دعم الأضاحي.
ويرجع هذا التنافر إلى “غياب الانسجام المرجعي” بين الحزبين، ورؤيتهما المختلفة للسياسات العمومية التي تمس الفئات الاجتماعية. ويخلص إلى أن تضارب الروايات “يؤشر على أن القرارات تؤخذ داخل الحكومة بشكل غير منسجم، وبشكل مبني على حسابات غير مرئية، تريد إقصاء أحد الطرفين لصالح الآخر في إطار تسخينات انتخابية سابقة لأوانها”.